الترجمة إلى السُّرْيانية
التمهيد:
الحديث عن ظاهرة النقل والترجمة إلى اللغة السُّرْيانية يدعو إلى رصد مراكزها السُّرْيانية، التي وصلت إلى خمسين (50) مدرسة فيما بين النهرين فقط، ويبدو أن هذا الرصد متعذِّر؛ لأن السُّرْيان لم يكونوا محصورين فيما بين النهرين، بل قد انتشروا انتشارًا واسعًا، وصلوا فيه إلى إفريقيا وشرق آسيا، فكان السُّرْيان الشرقيون يسمون بالنساطرة؛ نسبة إلى نسطوريوس، والسُّرْيان الغربيون يسمون باليَعاقبة نسبةً إلى يعقوب السروجي، إلا أن تأثير السُّرْيان النساطرة كان أظهر في حركة النقل والترجمة من السُّرْيان اليعاقبة
ولم تكن هذه المراكز كلُّها واضحةً في مسألة النقل والترجمة إلى اللغة السُّرْيانية، وكان يطلق عليها مدارس، أو هي أجزاء من أديرة أو بيوت، ومع هذا فكان جزء منها مدارس، أو معاهد، مشهورة معروفة، وسيُذكر منها هنا مجموعة منها على سبيل الإجمال، ثم يُفصل فيها في وقفات عند المشهور منها؛ لمزيد من التعرف إليها
ومن المدارس غير المشهورة: بيت قيقي، وبيت ترلي، وتلصلما، وبيت بني وشورزق، في قرى بني هدرا (دهوك)، ومدرسة دير مار سرجيس، في جبل سنجار، المعروف بالقاحل، ومدارس أءرزون، وبيت العيون (بيت عيناثا)، وتماتون، وبلد، وإربيل، وتحشيرون، وبيت إيبرابي (منبت الأجنحة)، وبيت رستاق، وقعيثا، وأدراني مبار، وكرخ سلوخ، وخربة جلال (حرباث كلال)، وبلاشبار، وأوراثا، والحيرة، وكشكر، وريحا، وميشان، وشوشتر، وكرخ ليدان، وشوشان، وبيث لافاط، وريوارد أشير، ومرو وغيرها، ونظرًا لغرابة الأسماء فقد نقلتها، بنصِّها، من المرجع نفسه
وكل هذه مدارس أسسها السُّرْيان في غضون القرنين الأول والثاني الهجريين - السابع والثامن الميلاديين، وكما يبدو من بعضها أنها أنشِئت في مدن ما بين النهرين، المعروف بعضٌ منها إلى اليوم، ويبدو من بعضها الآخر أنها أسماء أديرة، كانت تقوم بمهمَّات التنصير على الطريقة النسطورية والتدريس، وربما تبع التدريس النقل والترجمة من الثقافات الأخرى كاليونانية والفارسية، بل والهندية، ولكن لم يذكر لها آثار أو علماء اشتهروا، فاشتهرت بهم، أو اشتهروا بها.
وقد ورد ذكرها هنا رغبةً في التوسع في دراستها، والوصول إلى نتائج حول ما إذا كانت مراكز نقل وترجمة، أم أنها كانت مدارس محلية مهتمة باللاهوت، يديرها ويعلم بها الكَهَنة الذين لم تكن لديهم الرغبة في نقل ثقافاتهم إلى لغات أخرى، أو نقل ثقافات أخرى إلى لغتهم، وهذا ما يبدو على معظمها، ويمكن أن يفترض أنها من البواعث على ترسيخ فكرة النقل والترجمة إلى اللغة السُّرْيانية، عندما ينظر إلى حاجتها إلى العلوم الأخرى التي تعين على تثبيت علمية المواد التي تدرس بها، والتي ركزت على اللَّاهوت.
المراكز السُّرْيانية المشهورة:
هذه مجموعة من المدارس المشهورة بالنقل والترجمة عن اللغات اليونانية، والفارسية، والهندية - إلى السُّرْيانية، وقد يكون منها مدارس أو معاهد، نقلت علوم الهند إلى اللغة الفارسية، وأكتفي بالتعريف السريع بهذه المدارس، على أن البعض منها مكتبات مستقلَّة، أو هي جزء من أديرة أو كنائس، أو معاهد أو مدارس
أولًا: مكتبة الإسكندرية: مؤسسة قديمة جدًّا، أنشئت في القرن الثالث قبل الميلاد، وأُحرقت للمرة الأولى سنة 47 قبل الميلاد، وأُحرقت مرة أخرى في القرن الرابع بعد الميلاد، وأحرقها المقوقس في القرن السادس الميلادي - الأول الهجري قريبًا من دخول المسلمين مصر، ووزَّع مخطوطاتها على حمَّامات الإسكندرية وقودًا لنيرانها
وكان لها أثر في النزاع القائم على طبيعة المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، فكانت تمثِّل عدم تعدد الآلهة.
وتُرجم فيها الإنجيل بالمعنى، استنادًا إلى اللغتين اليونانية والعبرية، هذا بالإضافة إلى اهتماماتها بالعلوم والهندسة، وشهرة ما نقل عنها من كتب - في الهندسة على الأخص
ولا عبرة بمن قال: إنها أُحرقت في ولاية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه نقلًا عن أبي الحسن علي بن يوسف القفطي في كتابه "تاريخ الحكماء"، ثم نقلها عنه ابن العبري، جورج أبو الفرج، ثم تداولها بعض المؤرخين بعده؛ من أمثال البغدادي والمقريزي، وقد برَّأ المؤرخون المسلمين من هذه التهمةِ، لا سيما أن المسلمين يبحثون عن الحكمة، وهم أحقُّ بها من غيرهم أنَّى وجدوه
وقد عملت الحكومة المصرية بالتعاون مع المنظمات الثقافية الإقليمية والدولية؛ كالمنظمة الإسلامية للعلوم والتربية والثقافة، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) - على إعادة مجدها الذي كانت عليه، ومن يقف على هذا المشروع الحضاري يُدرِك العزم على إعادة مجد المكتبة، وقد تم ذلك، وافتتحها رئيس جمهورية مصر العربية محمد حسني مبارك في 10 /8 /1423هـ الموافق 16 /10 /2002م
ولأهمية مكتبة الإسكندرية ربما تحتاج إلى وقفة أطول، لكن المقام هنا مقامُ مرورٍ سريع، من حيث رصدُها هنا على أنها مركزٌ من مراكز النقل والترجمة القديمة قبل الإسلام.
ثانيًا: مدرسة أنطاكية: نشأت في القرن الأول الميلادي، وأكَّدت على تحريف الإنجيل، وآمنت بإنسانية المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، واهتمت بالنحو، واشتهرت على عهد الخليفة الأُموي عمر بن عبدالعزيز، عندما نقلت إليها أجزاء من مكتبة الإسكندرية.
ثالثًا: مدرسة باشهاق: نشأت في حدود القرن الأول الهجري - السادس الميلادي، واهتمت باللغة والنحو السُّرْيانيين
رابعًا: معهد بلخ: اهتم بتصدير الثقافة الفارسية والهندية إلى العرب، وفي مدينة بلخ معبد بوذي يدعي نويهار، مما قد يصطبغ على طبيعة المنقول والمترجم من هذا المعهد
خامسًا: مدرسة جُندَيسابور: أنشئت في القرن السادس الميلادي، لتدريس الطب والفلسفة، وكان جلُّ علمائها من النصارى النساطرة، ولغتها السُّرْيانية، وبها آثار الهند وفارس واليونان، امتدت، واستفاد منها بنو العباس - على ما سيأتي بيانه - لا سيما فيما يتعلَّق بأسرة آل بختيشوع
سادسًا: مدرسة حرَّان: واشتهرت بالفلك والرياضيات والفلسفة، ومعظم أعضائها من الصابئة والوثنيِّين، ثم انتقلت إليها العلوم عن طريق الإسكندرية، ثم أنطاكية، واهتمت بالنقل والترجمة إلى اللغة العربية
سابعًا: مدرسة الحيرة: آرامية نسطورية، اشتهرت بالطب واللغة والفلسفة، وتُعدُّ حلقة من حلقات الاتصال بين الثقافة الهيلينية والثقافة الإسلامية، كما كانت مركزًا للنقل والترجمة عن اللغة الفارسية قبل الإسلام وبعده
ثامنًا: مدرسة قنَّسرين: (عش النسور)، تابعة لدير قنَّسرين، أنشئت في القرن السادس الميلادي، على الفرات، درَّست اللاهوت والفلسفة والعلوم الرياضية، ونقلت آثار أرسطو عن اليونانية
تاسعًا: مدرسة دير مار متى اللاهوتية: تابعة لدير مار متى، شمال الموصل أنشئت في القرن الأول الهجري، أواخر القرن السابع الميلادي، واستمرت حتى أواخر القرن السابع الهجري - الثالث عشر الميلادي، حرصت على تعليم اللغة والأدب السُّرْياني
عاشرًا: مدرسة الرُّهَا: من أقدم مدارس الشرق، ترجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، اشتهرت بالعلوم اللاهوتية الدينية، والفلسفة والموسيقا، وكانت مركزًا للصراع العقدي بين النساطرة واليعاقبة، حول طبيعة المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، ونقلت عن اليونان فلسفة أرسطو، قصدها علماء أثينا والإسكندرية بعد إغلاق مدارسهما، فنقلوا معهم التراث اليوناني
حادي عشر: مدرسة شماي: اعتمدت على النص الحرفي في ترجمة العهد القديم من الإنجيل، لاهوتية، وهي من المدارس اليهودية
ثاني عشر: مدرسة نصيبين: نشأت في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، على إثر إغلاق مدرسة الرها، على يد الإمبراطور زينون سنة 439م، أسسها النساطرة، وكانت منطلقًا لبث تعاليمهم، والتنصير على الطريقة النسطورية، في جوف آسيا وبلاد العرب، واستعانوا بالفلسفة اليونانية، لتأييد مذهبهم، فقلَّت الثقة بما نقلوه، وهي امتداد للمدرسة الأرثوذكسية واستمرت ما يزيد عن مائتين وخمسين (250) سنة
ثالث عشر: مدرسة هليل: اهتمت بترجمة الإنجيل (العهد القديم)، وأجازت الترجمة بالمعنى والتفسير الرمزي، متأثرة بفلسفة أفلاطون، صدرت مها نقول وترجمات، اشتهرت منها الترجمة "الفلسطينية" للعهد القديم من الإنجيل، وترجمها رابي آشي، (توفي سنة 529هـ)، من مدينة سورا، قرب الرقة، وهي ومدرسة شماي، من مدراس اليهود القديمة.
رابع عشر: وهناك مدارس ومراكز أخرى، لها أثر في النقل والترجمة إلى اللغات السُّرْيانية من اليونانية والهندية والفارسية، يُذكر منها هنا: مدارس المدائن ومدرسة قرتمين، ومدرسة دير تلعَدا